🌴الدرس (51) لكتاب شرح أصول السنة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى تأليف الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي حفظه الله،
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،
🌸(تابع)الخروج على الأئمة :
الحكمة في عدم جواز الخروج على ولي الأمر إذا فعل المعاصي والكبائر ر؛
لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وبدرء المفاسد وتقليلها،
ومن قواعد الشريعة أنه: إذا اجتمع مفسدتان: كبرى وصغرى، لا يُستطاع تركهما،
لا بد من فعل واحدة من المفسدتين؛ فإنَّا نرتكب المفسدة الصغرى لتفويت الكبرى.
وكذلك إذا وُجدت مصلحتان: كبرى وصغرى، لا نستطيع فعلهما؛
فإننا نفوت المصلحة الصغرى، ونفعل المصلحة الكبرى،
فهذه قاعدة من قواعد الشرع، دلت عليها نصوص كثيرة.
فمن أدلة هذه القواعد؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة:
🍀"لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين"(أخرجه البخاري ومسلم)،
يعني: منعه من ذلك؛ خشية أن يكفروا؛
لأن قريشا أسلموا حديثا؛ ولا تتحمل قلوبهم ذلك،
يقول: فلولا خشيتي عليهم من الردة، لفعلت ذلك؛
لأن الكعبة كانت قد بُنيت على بناء الجاهلية.
وذلك: أن أهل الجاهلية لما تصدعت الكعبة، قبل البعثة النبوية بخمس سنين؛
هدموا الكعبة وبنوها، وقالوا – وهم كفارٌ – يومئذٍ: لا نريد أن نبني الكعبة إلا بدراهم حلال؛
ليس فيها حرام؛ يعني: كل درهم ينفقونه في بناء الكعبة؛ لا بد أن يكون حلالاً؛ الطين، والخشب، وغيرهما،
فجمعوا مالا حلالا، ثم لم يجدوا مالا من الحلال يكفي لبناء الكعبة،
وقَصَّرتْ بهم النفقه، فقالوا: نبني بعضها ونخرج بعضها،
فبنوا بعضها وأخرجوا الحِجر ستة أذرع أو سبعة أذرع، أو سبعة أذرع ولم يدخلوا الحِجْر في الكعبة؛
لأنهم لم يجدوا مالا حلالا يبنونها بها.
فكان أمرُ الكعبة باقياً على ما كانت عليه زمن الجاهلية،
فلما فُتحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وأسلمت قريش لم يكن الإيمان قد تمكَّن من قلوبهم بعدُ،
وكان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يريد أن يُدخل يدخل الحجر في الكعبة،
وكانت قريش قد أخرجت الحِجْر، وجعلت بابا واحدا، بابا شرقيا، وكان مرفوعا،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:🍀 "لولا أن قومك حديثُ عهد بجاهلية لأمرت بالبيت، فهُدم، فادخلت فيه ما أُخرج منه، وألزقته بالأرض وجعلت له بابين؛ بابا شرقياً وبابا غربياً، فبلغتُ به أساسً إبراهيم"(أخرجه البخاري ومسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: "ألم ترَى قومَك قَصَّرت بهم النفقة"،
قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟
قال: "فعل ذلك قومك ليُدخلوا مَنْ شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثٌ عَهْدُهُم بجاهلية فأخافُ أن تنكر قلوبهم أن أُدخل الجَدْرَ في البيت، وأن ألصُق بابه بالأرض"(أخرجه البخاري ومسلم).
فهنا تعارض أمران: نقض الكعبة وبناؤها على قواعد إبراهيم،
وخوف ارتداد من أسلم حديثاً من أهل قريش،
فلما تعارض الأمران، وكانت مفسدة الكفر هي الراجحة،
ترك النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة على ما كانت عليه زمن الجاهلية.
ولهذا لما تمكن الإيمان من قلوب الناس في زمن عبد الله بن الزبير؛
لما تولى الخلافة؛ طبَّقَ هذا الحديث، وأدخل الحجر،
ونزَّل الباب الشرقي، وفتح بابا غربيا، وصار عبد الله بن الزبير يستلم الأركان الأربعة كلها، حتى الركن الشامي والعراقي؛
لأنه لما أدخل الحجر في البيت، صارت الأركان كلها على قواعد إبراهيم،
فصار يستلم الأركان الأربعة كلها.
لكن نازع عبد الله بن الزبير، عبد الملك بن مروان؛
لما استتب له الأمر أخذ الحجاز، وأخذ الشام كذلك،
ولكن كاد مروان بن الحكم أن يبايعه، لم يبق لهم آنذاك إلا بلدة واحدة في الشام،
ثم تولى بعده عبد الملك، وجعل يأخذ الشام بلدة بلدة حتى توسع،
ثم أخذ العراق، ثم ولى الحجاج، وجعل الحجَّاجُ يقاتل،
وجعل هَمَّهُ قتال ابن الزبير؛ فصار الحَجَّاجُ يبعث الجيوش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير،
حتى انتهى الأمر بقتل عبدَ الله بن الزبير، فصَلَبَهُ الحجَّاج على خشبة،
وهدم الكعبة بالمنجنيق، وأخرج الحجر، ورفع الباب، وسد الباب الغربي،
وأعادها على ما كانت عليه في الجاهلية؛ كما هي الآن.
وقد استشار أبو جعفر المنصور الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-
هل يعيد بناء الكعبة، ويُدخل الحجر كما فعل عبد الله بن الزبير، أو يتركها على حالها؟
فأشار إليه الإمام مالك بتركها على حالها، فقال: لماذا؟
فقال الإمام مالك: أخشى أن تكون الكعبة ملعبة للملوك، فبقيت على ما كانت عليه.
فكان رأي الإمام مالك موفقا فَسَدَّ الباب حتى لا تكون الكعبة ملعبةً بيد الملوك؛ كلما جاء واحدٌ هَدَمَها وبَنَاها.
فهذا مثال من تطبيقات القاعدة السابقة، قاعدة تعارض مفسدتين: كُبرى، وصُغرى.
ومن تطبيقات القاعدة السابقة: مسألة ترك الخروج على وليِّ الأمر، إذا جار أو فَسَقَ،
ولا شك أن فعلَهُ هذا مفسدة، لكن الخروج عليه يترتب عليه مفاسد أكبر،
كاختلال الأمن، وانشقاق عصا الطاعة، وانقسام الناس؛
قسم مع ولي الأمر، وقسم مع غيره،
وإراقة الدماء، واختلال أحوال الناس المعيشية: الزراعية، والتجارية، والتعليمية، والصناعية؛
كلها تختل، فيتربص الأعداء بهم الدوائر، تتدخل الدول الأجنبية، وغيرها.
لا شك أن هذه المفاسد أعظم وأكبر،
وهي تربو على مفسدة كون وليّ الأمر فاسقاً أو جائراً،
ولذلك: كانت القاعدة الشرعية في مثل هذه الأحوال: أن تُرتكب المفسدة الصغرى؛ دفعاً للكبرى؛
فكان لا بُدَّ من الصبر على جوره وظلمه؛
لا شك أن هذا أسهل من الخروج عليه؛
لأن الخروج فيه إراقة الدماء، وفتن، ومصائب، واختلال الأمن، وأمور عظيمة، تقضي على الأخضر واليابس؛ فلهذا جاء الإسلام بالمنع من الخروج على ولاة الأمور.
ومع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر،
كما في قوله: 🍀"من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر"
فإن هذا لا يمنع من مناصحته مِنْ قِبَلِ أهل الحل والعقد، والعلماء، وغيرهم،
فيبلغونه الحقَّ، ويناصحونه،
فإن قَبِل فالحمد لله، وإن لم يقبل؛ فقد أدوا ما عليهم، وأبرأوا ذمَمَهُم.
والله أعلم.
****************
No comments:
Post a Comment