Friday, June 5, 2015

الدرس (٣٢) شرح أصول السنة

🌴الدرس (32) لكتاب شرح أصول السنة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى تأليف الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي حفظه الله، 

 

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،

 

تابع: 🌸الإيمان بعذاب القبر 

 

وقال -رحمه الله تعالى-: "والإيمان بعذاب القبر وأن هذه الأمة تفتتن في قبورها وتسأل عن الإيمان، والإسلام، ومن ربه، ومن نبيه؟ ويأتيه منكر ونكير كيف شاء الله عز وجل،وكيف أراد. والإيمان به والتصديق به". 

ـــــــــــــــ 

فهذا الحديث الطويل فيه إثبات نعيم القبر، وفيه إثبات السؤال، وأن هذه الأمة تفتن في قبورها، وأن الميت يُسأل عن ربه وعن دينه، وعن نبيه.

وتتمة الحديث: (قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح) -؛ أي: كفن أسود  (فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده فينتزعها - يعني: ملك الموت  (كما ينتزع السفود من الصوف المبلول) -؛ أي: الشوك من الصوف المبلول؛ يشق نزعُه واستخراجه (فيأخذها فإذا أخذها) -؛ يعني: ملك الموت  (لم يدعوها في يده طرفة عين) -؛ يعني: الملائكة الذين معه  (حتى يجعلوها في تلك المسوح) -؛ أي: الكفن  (ويخرج منها) - من هذه الروح  (كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض لخبت رائحتها - فيصعدون بها)- يعني هذه الروح  (فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يُسمى بها في الدنيا، حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له)

 

ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:🌹 { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوابِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَايَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَلِكَ نَجْزِي  الْمُجْرِمِينَ}(الأعراف 40)،

فيقول الله عز وجل: "اكتبوا كتابه في سجين -؛ أي: في الأرض السفلى  فتُطرح روحه طرحًا، 

ثم قرأ رسول الله: 🌹{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ  الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴿٣١﴾}(الحج 31) فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ها ها لا أدري، فيقولان: له ما دينك؟ فيقول: ها ها لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: ها ها لا أدري، فينادي منادٍ من السماء أن كذب فافرشوا له من النار وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: رب لا تقم الساعة)

 

هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند وابنه عبد الله في السنة، وأبو داود، وسنده حسن، وفيه: فيه إثبات عذاب القبر ونعيمه، وإثبات الفتنة في القبر، سؤال منكر ونكير، وهما ملكان، يقال لأحدهما: منكر، والثاني: نكير، كما جاء في حديث آخر. 

فيجب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وأن هذه الأمة تُفتن في قبورها؛ يعني: تُسأل، وتُختبر، وتُمتحن، بالسؤال عن الإسلام، وعن الإيمان، ويقال له: ما دينك؟ ومن ربك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله المؤمن، ويضل الله الكافر والفاجر. 

 

وفي الحديث قال: "أتاه ملكان أسودان أزرقان  ويقال لأحدهما المنكر والآخر النكير"(حديث حسن أخرجه الترمذي، وابن أبي عاصم، والآجري، وابن حبان).

 

وقول المؤلف رحمه الله: :"ويأتيه منكر ونكير كيف شاء وكيف أراد"؛

يعني: لا نسأل عن الكيفية، فإنهما يأتيان على أي طريقة أراد الله سبحانه وتعالى،

فلا بد من الإيمان بذلك واعتقاده.

ولهذا قال الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته، وشارح الطحاوية ابن أبي العز: "وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلًا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا يتكلم في كيفيته"

 

فإذا ثبت تواتر الأخبار بذلك؛ فمن أنكر المتواتر والمعلوم من الدين بالضرورة، بغير شبهة: كفر.

فيجب اعتقاد ثبوت ما جاء في تلك الأخبار والإيمان بها، ولا يتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوفٌ على كيفيتها، لكونها لا عهد له به في هذه الدار

 

يقول شارح الطحاوية: والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكن يأتي بما تحار فيه العقول، 

يعني: الشريعة ما تأتي بشيء تُنكره العقول وتُحيله، لكن تأتي بشيء تتحير فيه العقول ولا تدركه على انفراده، الشريعة لا تأتي بشيء تنكره العقول وتنفيه، لكن تأتي بشيء تتحير فيه العقول ولا تدركه على انفراده، وهذا هو معنى قول العلماء: الشريعة تأتي بمحارات العقول، لا بمحالاتها، فالعقل الصحيح الصريح يوافق النقل الصحيح. 

 

ولهذا ألف أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كتابا عظيما سماه "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول"، وبين أن العقل لا يخالف النقل، سماه بعض العلماء (كتاب العقل والنقل)، 

يعني :أنه لا يمكن أن يتعارض نقلٌ صحيح وعقلٌ صريح أبداً، وإذا وُجد أنَّ العقلَ يخالف النص؛ فهذا لأحد أمرين: إما أنَّ النقل غير صحيح، أو أن العقل غير صريح؛ أي : فيه شبهة وشهوة.

والعقل الصريح هو : السالم من الشبهات والشهوات، ولهذا سَمَّى شيخ الإسلام كتابه: "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول".

 

وكما أنه لا بُدَّ من الإيمان بعذاب القبر ونعيمه؛ فكذلك يجبالإيمان بضمة القبر، فقد ثبت أن للقبر ضمة؛

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:🍀 "إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجياً منها نجا منها سعد بن معاذ"؛ قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما مات سعد بن معاذ؛ قال: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ". ومع ذلك ما سَلَمَ من ضمه القبر. فالقبور تضمّ الميّت، ثم يفرج الله عنه.

 

ومما يدخل في الإيمان بعذاب القبر ونعيمه: اعتقاد أنالعذاب يكون للروح والجسد؛ فالروح تُعذب وتُنعم مفردة ومتصلة بالجسد، فروح المؤمن تنعم في الجنة وحدها، وروح المؤمن هذه؛ هي طائر في الجنة، ولا صلة لها بالجسد؛ لأن الروح سريعة الطيران، بسرعة تذهب وتأتي وتطير، ولهذا فإنَّ النائم تجد روحه خرجت حال نومه، لكن مجرد أن ضُرِبَتْ رِجْلُهُ: جاءت روحُه من بعيد. وكذلك الكافر تعذب روحه في النار، ولا صلة لها بالجسد؛ فالجسد يبلى والروح باقية في نعيم أو في عذاب. 

 

وذهب المعتزلة إلى أن العذاب والنعيم يكون للروح؛

قالوا: أما الجسد فلا يُعذب ولا يُنعم: وهذا باطل؛

لأنهم أنكروا عذاب القبر ونعيمه الواقع على الجسد، وأنكروا السؤال، وأنكروا تضييق القبر وتوسيعه للمؤمن، وقد ثبت في الأحاديث أن المؤمن يوسع له في قبره مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها، والكافر يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها.

 

وحُجتهم من العقل والحس أنهم قالوا: لو فتحنا القبر ما وجدنا فيه نارًا تشتعل، ولا ميتاً، ولا شيئاً من ذلك النعيم الذي قُلتم إنه يأتيه من ثملار الجنة.

وقالوا: كيف ينعم هذا ويعذب هذا، ولو فتحنا القبر ما وجدنا لا عذابا ولا نعيما، وكيف يُعذب من صٌلب على خشبة، وكيف ّيُعذَّبَ ويُنعم من أكلته الطيور، أو أكلته السباع، ومن أكلته الحيتان؟! والمقبرة التي زُرعت فصارت حبوبا وثمارا كيف يعذب وكيف ينعم أهلها؟ 

 

نقول لهم: هذه أمور الآخرة لا تعلمون أنتم ولا نحن كيفيتها، ولا تدركون كنهها، والواجب على المسلم أن يُسَلِّم بهذه الأمور الغيبية، وكونك لا تراها ولا تُحس بها، فليس جهلك وعدم إحساسك بها؛ حجة على الشرع؛

فالميت ينعم ويعذل، وهو يجد ذلك، ويحس به؛ لأنه في البرزخ، لكن أنت لست في البرزخ، فلا تحس بذلك، بل أنت لو كشفتَ عن قبر ما، ووضعت يدك؛ ما أحسست بذلك؛ لأنك في الدنيا، لكن هو يحس بها.

 

فأمور الآخرة لا نعلم كيفيتها، والواجب على المؤمن أن يسلم لله ولرسوله، ويؤمن بعذاب القبر ونعيمه، 

وأن الميت يناله عذاب القبر ونعيمه، حتى ولو كان مصلوبا على خشبة، ولو غرق في البحار، ولو أكلته السباع والحيتان؛ فإنه سيناله ما قدر له، ويناله سؤال منكر ونكير، ويناله العذاب والنعيم، وتناله ضمة القبر، لكن الله أعلم بكيفية ذلك، فعليك التسليم، ودعْ الاعتراضَ على الشريعة.

 

هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة، قال -عليه الصلاة والسلام-🍀: " لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه"؛ يعني: لولا ألا تتدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم أصوات المعذبين في قبورهم، لكن من رحمه الله أن الإنسان لا يسمع أصوات أولئك المعذبين، وإلا لَمَا قَرّ له قرار، ولما عاش الناس، 

وجاء في الحديث:🍀 "ثم يُضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنية فيصيح صيحة يسمعها كل شيء من يليه إلا الثقلين"؛ يعني: إلا الجن والإنس، ولو سمعها الإنسان لصعق، ولما عاش بعدها، ولو كنا نسمع أصوات المعذبين فهل يقرّ للناس قرار؛ لو كنا نسمع بكاءهم وصياحهم وصراخهم؟ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: 🍀"لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه" . 

 

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول للجيش من الجيوش التي تربي الخيول وتهيأها وتعُدها للجهاد: إذا أصاب  يعني الخيول  ألم في بطونها: ائتوا بها إلى قبور الرافضة أو قبور اليهود. فيأتون بها إلى تلك القبور، فتسمع أصوات المعذبين؛ فتستطلقُ فيخرج منها إسهال. فيكون هذا علاج دائها.

 

والمعتزلة بسبب أصولهم العقلية الفاسدة عارضوا النصوص، وأوجبوا على الله أموراً باطلة؛

كإيجابهم على الله أن يثيب المطيع؛ لأن من أصولهم إنفاذ الوعيد، 

فيوجبون على الله أن ييب المطيع، وأن يعاقب العاصي؛ لأن العاصي  بزعمهم  هو الذي خلق فعله؛ 

فعلى هذا: فيجب على الله أن يثيب المطيع؛ لأنه يستحق الثواب على الله؛ 

كما يستحق الأجير أجرته، ويجب عليه أيضاً أن ينفذ الوعيد في العاصي، وليس له أن يعفو عنه.

 

وفق الله الجميع لطاعته وصلى الله على محمد وآله وصحبه. 

 

*******************

No comments:

Post a Comment