🌴الدرس (33) لكتاب شرح أصول السنة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى تأليف الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي حفظه الله،
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،
🌸الإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم:
🍄المتن: قال رحمه الله تعالى: "والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبقوم يُخرَجون من النار بعدما احترقوا وصاروا فحمًا، فيؤمر بهم إلى نهر على باب الجنة كما جاء في الأثر كيف شاء الله وكما شاء، إنما هو الإيمان به والتصديق به".
ـــــــــــــــ
🍄قال الإمام أحمد رحمه الله: "والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم"؛
يعني: ومن أصول السنة عند أهل السنة والجماعة: الإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق أنواع،
فله عليه الصلاة والسلام ثلاث شفاعات اختص بها، وثلاث شفاعات شاركه فيها غيره.
فالشفاعات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، 🌷أولها: الشفاعة العظمى التي تكون في موقف القيامة،
والتي يتأخر عنها أولو العزم، والتي يموج الناس فيها بعضهم ببعض،
وهي عامة للمؤمن والكافر؛ لإراحة أهل الموقف، حتى يحاسبهم الله.
هذه الشفاعة العظمى خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم،
وهي المقام المحمود التي يغبطه فيها الأولون والآخرون،
وهي المذكورة في قول الله تعالى:🌹 { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴿٧٩﴾ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴿٨٠﴾}(الإسراء 79-80).
هذا هو المقام المحمود، وذلك أن الناس يقفون بين يدي الله للحساب، حفاة، عراة، غرلًا،
وتدنو الشمس من الرؤوس، ويزاد في حرارتها،
ويبلغ الناس من الكرب والهم والغم ما الله به عليم،
فيموج الناس بعضهم في بعض ويفزعون إلى الأنبياء؛ يطلبون منهم الشفاعة.
والشفاعة من الحي الحاضر: لا بأس بها،
بخلاف الشفاعة من الميت أو الغائب، فلا يُطلب من الميت شفاعة؛
فلا تقل: يا فلان اشفع لي. ولا تُطلب من غائب؛ لأن هذا من شرك،
لكن الشفاعة من الحي الحاضر القادر: لا بأس بها.
وهذه الشفاعة التي يطلبها الناس من الأنبياء شفاعة جائزة؛
لأنهم يطلبون منهم أن يدعوا الله، وأن يسألوا الله، وأن يحاسبهم،
لكن يتأخر عنها أولو العزم، كما سبق في حديث الشفاعة،
وكما هو مذكور في حديث الشفاعة الطويل في الصحيحين وغيرهما،
وأن الناس يأتون أولًّا آدم فيقولون: "يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه،
وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟
فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله،
وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح؛
فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم؛
فيأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض،
اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟
فيقول لهم إبراهيم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله،
وذكر كذباته. نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، إلى موسى،
فيأتون موسى عليه السلام فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضّلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس،
اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول لهم موسى عليه السلام: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله،
وإني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها. نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى عليه السلام،
فيأتون عيسى؛ فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلّمتَ الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم، وروح منه؛ فاشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول لهم عيسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله،
ولم يذكر له ذنبًا. نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛
فيأتوني، فيقولون: يا محمد وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك،
ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فأنطلقُ فأتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطى واشفع تشفع،
فأرفع رأس بأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك مَنْ لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى".
وقوله: اشفع تشفع، هذا هو الإذن المذكور في قول الله سبحانه:🌹 { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ }(البقرة 255)،
لا أحد يستطيع أن يشفع عند الله إلا بإذنه.
أما ملوك الدنيا والرؤساء والأغنياء والوجهاء، فالأمر بخلاف ذلك،
كل واحد يشفع بدون إذنه، وقد يرغمه إرغاماً، قد يرغمه لأنه يحاذره؛
قد يشفع ابنه أو زوجته بشيء هو مكره عليه، لكن الله سبحانه وتعالى لا مكره له،
🌹{ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ }
فيشفِّع الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فيقضي الله بين الخلائق، ويحاسبهم جميعًا،
فينصرف الناس فريقين: فريق إلى الجنة، وفريق إلى السعير.
هذه هي الشفاعة الأولى؛ الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم .
🌷الشفاعة الثانية: الشفاعة لأهل الجنة في الإذن لهم في دخولها؛
فأهل الجنة لا يدخلونها إلا بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ يشفع لهم عند ربه فيأذن لهم في دخول الجنة.
🌷الشفاعة الثالثة: الشفاعة في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب،
لأنه خَفَّ كفره بدفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فصار أخف أهل النار عذابًا.
فيشفع نبينا صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب؛
فيخرجه الله من غمرات من نار إلى ضحضاح؛ يغلي منها دماغه.
فهذه شفاعة تخفيف فقط، كما جاء في الحديث الصحيح:
عن العباس بن عبدالمطلب، أنه قال: يا رسول الله! هل نفعتَ أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟
قال: "نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"؛
فهذه الثلاث، خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم .
أما الشفاعات الأخرى، فهناك ثلاث شفاعات يشاركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، والأولاد والشهداء، وغيرهم.
💐الرابعة: الشفاعة في رفع درجات قوم من أهل الجنة وزيادة ثوابهم،
فيشفع في قوم من أهل الجنة حتى يرفع بتلك الشفاعة درجات قوم من أهل الجنة.
💐الشفاعة الخامسة: الشفاعة في قوم استحقوا دخول النار بمعاصيهم، فيشفع فيهم ألا يدخلوها.
💐الشفاعة السادسة: الشفاعة في قوم دخلوا النار بذنوبهم فيخرجون منها.
هذه ثلاث شفاعات مشتركة، وهذه الشفاعات أنكر منها الخوارج والمعتزلة الشفاعتين الأخيرتين: الخامسة والسادسة، فأنكروا الشفاعة فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، ومن دخلها أن لا يخرج منها،
لأن الخوارج والمعتزلة يرون أن العاصي كافر، وأنه يخلد في النار؛ فلا يشفع فيه،
ولهذا أنكروا النصوص التي فيها إخراج العصاة من النار، مع أنها متواترة،
فأنكر عليهم أهل السنة وبدَّعوهم، وضللوهم، وصاحوا بهم في إنكارهم أحاديث متواترة بلغت حد التواتر!!
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات في أهل النار العصاة،
وفي كل مرة يحدّ الله له حدًا، ويخرجهم بالعلامة، "فيقال:🍂أخرجْ من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان"(أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد في المسند وابن حبان في صحيحه)،
ثم 🍂"مثقال برة من إيمان"، 🍂"مثقال ذرة من إيمان"،🍂 "مثقال حبة خردل من إيمان"،
حتى يقال له في المرة الرابعة: 🍂"أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان".
وذلك أن المعاصي وإن كثرت وعظمت، لا تقضي على الإيمان، لكن تضعفه،
حتى لا يبقى منه إلا أدنى مثقال حبة من خردل، لكنها لا تقضي عليه؛
لأن الذي يقضي على الإيمان هو: الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو الظلم الأكبر، أو الفسق الأكبر؛المخرج من الملة، هذا هو الذي يقضي على الإيمان، ولا يُبقي منه شيئاً،
أما المعاصي: فتضعف الإيمان؛ ولو كثرت؛ ولو عظمت؛ فإنها لا تقضي عليه.
وذكر بعضهم الشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، أنه يشفع لهم في دخول الجنة.
🍄يقول الإمام رحمه الله: "والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبقوم يخرجون من النار بعدما احترقوا وصاروا فحمًا". وهؤلاء هم عصاة الموحدين، يخرجون من النار بعدما احترقوا وصاروا فحمًا،
وفي الحديث: " فجيء بهم، ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل"(أخرجه مسلم وابن ماجه وأحمد وابن حبان) .
🍄وقوله: "كما جاء في الأثر ...". يشير بهذا إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:🍀 "يدخل الله أهل الجنة الجنة، يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون حمماً منها قد امتحشوا فيلقون في نهر الحياة أو الحيا، فينبتون فيه كما تنبت الحِبِّة في جانب السيل - أو في حميل السيل - ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية" رواه الشيخان: البخاري ومسلم وغيرهما، وقوله: "ينبتون كما تنبت الحبة"؛ يعني البذرة، في حميل السيل.
فإذا هُذبوا ونُقوا، أُذن لهم في دخول الجنة، فإذا تكامل خروج العصاة، ولم يبق أحد، بعد ذلك تطبق النار على الكفرة، بجميع أصنافهم؛ اليهود والنصارى، والوثنيين، والشيوعيين، والملاحدة.
وأما المنافقون فهم في الدرك الأسفل من النار، فلا يخرج صنف من هذه الأصناف منها أبد الآباد،
كما قال تعالى:🌹 { إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ}(الهمزة 8)، يعني مطبقة مغلقة،
وقال سبحانه:🌹 { يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}(المائدة 37)،
وقال سبحانه:🌹 {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}(البقرة 167)،
وقال سبحانه: { لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}(النبأ 23)،
وقال سبحانه: { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ ۖ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ۖ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (الإسراء 97)،
نسأل الله السلامة والعافية.
🍄وقوله: "كيف شاء الله وكما شاء الله، إنما هو الإيمان به والتصديق به"،
يشير إلى الوجوب الإيمان بالنصوص، والتصديق لها،وعدم الاعتراض عليها. الله أعلم.
***************